
لاحظت حتى قبل عرض مسلسل ديالا الذي كتبه الأستاذ أحمد كرغلي، وأخرجه الأستاذ علي بطة، سيلاً من التنمر الواضح ضده. ومع عرض الحلقة الأولى من المسلسل أمطره عدد من المتنمرين نقداً لا يشجع، أو يأخذ في الحسبان غياب تام للدراما التلفزيونية في بلادنا، وإنما لاحظت بالحق سعياً محموماً للحط من قيمة أداء الممثلين، والمخرج كذلك. وبدا لي من خلال هذه الكتابات أن أصحابها لا يرومون تقييماً للعمل يستند على معرفة موضوعية، أو تذوق بهدوء. وكذلك بدأ النقد هنا أشبه بإفراغ مكنون الحسد أمام كفاح إبداعي توسل بالصورة، والصوت، فقط ليخلق إبداعاً سلمياً، بالتزامن مع عدم وجود دولة ذات سيادة. ذلك النقد أيضاً يبحث في ديالا دون تيقنه من عدم توفر إعانات مالية كافية للدراما التلفزيونية مثل التي يجدها المنتجون في المجال في الشرق الأوسط.
وقد أحسست أن هؤلاء الناقدين – ومعظمهم من الجيل الجديد – يتسابقون في التلذذ بالسخرية من سيماء الممثلين، والمخرج، والمصورين، وضعف حيلتهم في توظيف شح الموارد لإنجاز عمل إبداعي يكشف عن حالة مجتمعنا.
صحيح أن مثل هذه الأعمال الفنية التي تعتمد على مصادر تمويل ضئيلة لا بد أن تأتي بإخفاق في بعض مشاهدها. بل إن هولاء الشباب هم بالكاد يجربون لاستكشاف قدراتهم في التعبير الدرامي في ظل عدم وجود خبرات، وأعمال أخرى للمقاربة. وكل ذلك بهدف أن يغرسوا شجرة بدلاً من لعن الظلام. ولهذا فإن هناك ما يشفع لكادر ديالا بأنهم حاولوا على الأقل ليقدموا أثراً فنياً يلفت الانتباه. ولا بد أنهم قدروا أن النضج يأتي بعد المزيد من التعثر، وأنه مع تكرار التجربة، وحصولهم على نقد موضوعي، سيتمكنون في المستقبل من تجويد الأداء، وتفادي السلبيات، وتقوية نواحي القوة في القصة، والأداء، والتصوير، والإخراج. وإذن كيف نستفيد من صنع أعمال درامية تناقش قضايانا، وتشجع آخرين لخلق تنافس، إن لم تساعدنا إخفاقات البدايات المعلومة لبلوغ مرحلة النضوج، والإنجاز المماثل لما وصلت السينما السودانية في نهضتها الأخيرة، والتي هي الأخرى بدأت متعثرة قبل عقود من الزمان قبل أن تحصد الآن جوائز عالمية؟
-٢-
لا بد أن ممثلي المسلسل نشأوا في زمان غاب فيه الإنتاج الروائي المسموع، والمشاهد. فهم لم يعاصروا إنجازات خشبة المسرح والدراما الإذاعية والتلفزيونية السودانية التي كانت تسير باضطراد نحو المثال، وتحقق قفزات كبيرة بفضل اهتمام الدولة، والمجتمع، والنقاد. بل إن الإنقاذ قطعت بينهم وبين فننا الدرامي الذي وصل إلى إنجاز مدارس متنوعة مما ساهم ذلك في فوز مسرحية “أربعة رجال وحبل” بالمركز الأول في مهرجان بغداد المسرحي في منتصف التسعينات.
إن الممثلين المجتهدين عبر ديالا ضحايا بلدهم الذي حارب المسرح المتقدم، والدراما الهادفة. فهم لم يشاهدوا الفاضل سعيد بمدرسته التقليدية، وجماعة السديم الحداثية، وفرقة الأصدقاء، ومحطة التلفزيون الأهلية، وفرقة كواتو المسرحية، ونماذج المسرح التجريبي عبر جماعة شوف، وهناك مسرح الرجل الواحد. ولم يسمع معظمهم عبر الإذاعة نماذج متعددة لأعمال درامية تتنوع أشكالها، ومضامينها، حتى قبل انقلاب الإنقاذ. ورغم شح مال الإنتاج فإن التلفزيون كان وقتذاك يحاول إنتاج مسلسلات رمضانية بين فترة وأخرى. ورحم الله الهادي صديق، وإبراهيم حجازي، وأمين محمد احمد، وحمدنا الله عبد القادر، وفتحية محمد أحمد، وأمد الله في عمر فايزة عمسيب، ومكي سنادة، ومحمد شريف علي، وسعد يوسف، ومحمد السني دفع الله، وتحية زروق، وبلقيس عوض، وآخرين.
لا بد أن معظم شباب ديالا لصغر سنهم حُرموا من الوقوف على إرث الدراما السودانية المميزة بعد أن تدخل جهاز الأمن في عمل المؤسسات الإعلامية، والثقافية، وأحال معظم المميزين للصالح العام. أما “المناخ الحضاري” فلم يكن للإبداع أصلا في وقت مر من بيوت الأشباح عددٌ من المبدعين. وصار من العادي أن يختفي شاعر حتى يوم الناس هذا، ويُجلد فنانون كبار، ويعتدي ابن متنفذة إسلاموية على مذيع داخل التلفزيون. وفي هذه الظروف هاجر عدد هائل من دراميين هم في عمر آباء وأمهات ممثلي ديالا. وهكذا فقدت الساحة كتاباً، وممثلين، ومخرجي دراما في الجهازين الإعلاميين، والمسرح، وأساتذة مهرة في الأكاديمية الفنية.
الجميل أن الجقر، وصحبه، يجتهدون بعد ثلاث عقود لإحياء الدراما التي تراجعت عقب توقف مسرح أمدرمان من تقديم عروضه، وهو الذي كان يقدم مواسم منتظمة فيما تمثل الفرجة طقساً اجتماعياً راقياً للأسر، وسائر الجمهور المهتم. وكانت المؤسسة الأكاديمية التي تضطلع بأمر الموسيقى والمسرح تواجه عدم الاستقرار بسبب تعيين كوادر إسلاموية على سدة الإدارة، والذين حاولوا فرض الكبت الثقافي، والتحرش بالأساتذة، والطلاب، ممن كانت صحف الإنقاذ تصليهم بسياط النقد. ذلك بوصف أن المعهد العالي للموسيقى والمسرح يعد معقل اليسار. وضف إلى هذا أن الراحل أحمد عبد العال الذى تبنى مشروع “أسلمة الفن” الذي دعمه النظام جاء إلى المعهد، وفشل في إدارته. وفي عهده استقال الراحل هاشم صديق من إدارة قسم التمثيل والنقد بعد مشادة بينهما.
-٣-
كمتذوق قديم، وصحافي منحاز، لأعمال المسرح والدراما الإذاعية والتلفزيونية منذ النصف الأول من الثمانينات أفهم تماماً لماذا لا توجد لدينا أعمال منتظمة توازي أعمال المغنين الذين تطوروا نظراً لتوفر اهتمام رسمي وشعبي بالغناء الذي متاحٌ أمامه فرص الإنتاج. ولذلك تجدني أتعاطف مع الاستاذ أحمد الجقر الذي لم يتيسر له النجاح الكبير كمغنٍ، ومن ثم حاول التجريب لإنتاج أكثر من مسلسل بعون من الميسورين الذين استقطبهم للاستثمار في هذا المجال الذي يهرب منه أصحاب المال.
فالجقر “ذنبه” أنه حاول فقط مع زملائه المثابرة لتقديم مسلسل في كل رمضان عسى يذكرنا بأن الدراما يمكن أن تعين في معالجة قضايانا الاجتماعية. ولذلك فهو يحتاج لحملة حسد تسخر منه، وينبغي علينا أن نشد من أزره، ونربت على كتفه بالتشجيع. وأتذكر هنا أن البروف صلاح فرج الله اغتاظ مرة من نقاد أدب جاءوا ليقيموا قصصاً قصيرة لشابات زغب الحواصل فأغلظوا في النقد لدرجة التعنيف. فأوقفهم صلاح الذي كان يدير الندوة، وقال لهم: “رفقاً بالقوارير “، وأضاف بضحكته المجلجة: ياخي “نِحنا دورنا التشجيع..لا التقريع”.
الحقيقة أن “الفن شغل سامي وبيخلي النفس نامي” كما كان يقول لنا دائماً الشاعر عبدالله النجيب. ولذلك فإننا في وقت نشجع مسرح كيكل القاتل بصرفتين، إذ يقتل مواطنين مع الدعم السريع تارةً، والجيش تارةً أخرى، دعونا نشجع المنتج جلال حامد، والجقر، والمخرج الذي سيكون يوما مثل سعيد حامد بمزيد من التراكم. وعلينا الاستفادة من صبر السينمائيين الذين أخفقوا في البدايات، ولاحقاً نجحوا دولياً، مهما ضعُف أداء الممثل، أو المصور، أو المخرج في نبل المحاولة لتحقيق شروط الفن الأولية في البيئة الفقيرة من العمل الدرامي.
الشيء الأخير هو أن التنمر الذي صار سمة أساسية للأعمال الإبداعية التي تنشد التجريب يعبر عن حالة مرضية أنتجتها تجربة الظلم الاجتماعي التي أدخلنا فيها الإخوان المسلمين. فهم الذين خلقوا الفوارق الطبقية الحادة، وصنعوا المظالم المجتمعية، فتحققت مقولة الماركسيين بوجود حقد طبقي ملازم توطنه الأوليغارشية السياسية.
الصحافي مصطفى أمين في بداياته كان يغتاظ من نقد الصحفيين الذين سبقوه، وهم بالفعل كانوا يحسدونه لمواهبه الصحفية. فشكى للرافعي الذي قال له: “قبل أن ينتشر نقدهم لك أردفهم بعمل صحفي آخر”. وقريب من مثال هذه الواقعة كان الزعيم الأزهري يرد على منتقديه الذين يسرفون في اتهامه ببناء طوابق منزله من المال العام، فكان يقول: “كلما هاجموني رديت عليهم بطابق جديد”. ولما توفى وجدوا أن منزله كان مرهوناً للبنك.
لكل شباب ديالا زنابق من الورد الموشى بماء الذهب. وكلما تكاثف الهجوم عليكم ردوا بمسلسلين في العام حتى تنضج تجارب كفاحكم السلمي، وتشرفوا البلد بدراما تعالج الحسد الاجتماعي والفني قبل كل شيء.