تحقيقات

“صحيفة البلاد” تنشر نص المذكرة التى على إثرها قصف الطيران المصري “الجزيرة أبا” مرتكباً مجزرة راح ضحيتها الاف السودانيين

آخر مذكِّرة وجهها الإمام / الهادي المهدي إلى الرئيس المصري / جمال عبد الناصر.

 

حصُلت (صحيفة البلاد) على نُسخة من المُذكِّرة التي كان قدد وجهها الزعيم السوداني (الإمام الهادي المهدي) إلى الرئيس جمال عبد الناصر بتاريخ27/كانون الأوّل/1969م ، أي قبل أربعة أيّام من ذهاب الرئيس المصري إلى الخرطوم لحضور الإحتفال بعيد إستقلال السودان في أوّل كانون الثاني سنة 1970م .وهذه المذكِّرة تلقى ضوءاً ساطعاً على حقائق العلاقات بين مصر والسودان ، وما إعتراها من أخطاء من الجانب المصري ، وما تميّزت به من خدمات من الجانب السوداني إلى الجانب المصري ، والمُذكِّرة تكشف سرّاً هامّاً من أسرار الحملة على الجزيرة أبا ،
وهذا هو نصُّ المُذكِّرة : –

بسم الله الرحمن الرحيم
سيادة الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهوريّة العربيّة المُتّحِدة ،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد ، هذه كلمات فرضت علينا مسؤوليتنا تجاه وطننا وقومنا أن نكتبها إليكم راجين أن تمنحونا من الإهتمام بقدر ما يستحقّه السودان لديكم من إحترام ، وبقدر ما تودّون له من خير وعِزّة في حاضره ومُستقبله.

يا سيادة الرئيس :
إن العلاقة بين بلدينا كان يمكن ، بالعقل والعدل والحكمة أن تكون أفضل مما هي عليه الآن ، طوال تاريخ الجوار ، وعلى عُمق أُخوّة الإسلام وبإملاء المصالح القوميّة للشعب السوداني والشعب المصري ، فما من أحد راشد يتمنّى أو يعمل على إهدار حّرمة الإخاء الإسلامي أو يمزِّق صلات الجوار أو يضيع المصالح القوميّة لقومه ،إلاّ أن أخطاء خطيرة وقعت في تاريخنا الحديث وأصابت هذه العلاقة بمساوئ وأضرار كثيرة وعميقة تخطّت جراحات المشاعر إلى إنزال الضرر بالمُقوِّمات القوميّة والمصالح الحيويّة لوطننا ،فالتسلُّط التركي المصري ، ثم الحُكم الثنائي (الإنجليزي المصري) وما أدّى كلّ ذلك إلى قتال طاحن مع السودانيين وسقوط عشرات الآلاف من الشهداء (عشرة آلاف شهيد من الأنصار في معركة كرري وحدها ، وسياسة القمع والتعالي على السودانيين التي إتّسمت بها تلك الفترة المُظلمة)، وردّة الفعل السودانيّة ضد كل هذه السياسات ، وهي ردّة فعل إستمرّت حتّى إستقلال السودان ، هذه السلسلة من المآسي المُحزِنة ألحقت بالعلاقات بيننا هزّات لم تقتصر آثارها على جيل واحد من السودانيين ،وكان يمكن -بعد ذلك كلّه- أن يتدارك العقلاء الأمر ويضعوا العلاقات في إطارٍ أسلم ، من مراعاة المصالح والإحترام المُتبادل ،وهُنا إسمح لنا – يا سيادة الرئيس – بأن نكون أكثر صراحة وأدق تحديداً لما نقول ،أن العلاقة بين بلدينا – بعد الإستقلال – لم تكن كما ينبغي لها من المتانة والثقة ، وكما لم نكن مسؤولين عن الأخطاء التي حدثت من قبل فإننا اليوم لسنا مسؤولين عن الأخطاء التي وقعت بعد الإستقلال بعد الإستقلال ، أخذ مبعوثكم إلى السودان والمُكلّف من قبلكم بالإشراف على العلاقة مع السودان وهو السيّد صلاح سالم ، أخذ يُعاملنا بروح الماضي الأليم حتّى أن كثير من السودانيين الحادبين على حُسن الجوار ومُستقبل العلاقات تساءلوا لماذا يُعاملنا إخوتنا في مصر بروح الحُكم الثنائي ؟ ولمصلحة أي الطرفين منّا يجري هذا ؟ وكان نتيجة لهذه التصرُّفات ، أن توتّرت العلاقات من جديد .

وحوادث الحدود في حلايب كانت بإستفزاز من جانبكم ، وهي حوادث كانت ستقود إلى حربٍ حقيقيّة بين البلدين ، ولكن الله سلّم .

في عام 1958م ، ألغي إنقلاب عسكري الحياة الدستوريّة في بلادنا ، وصادر حُرّيّات المواطنين، فلم تلبثوا أن أعلنتم إعترافكم وتأييدكم وتشجيعكم لذلك الإنقلاب ، وكانت هذه الخطوة من جانبكم صدمة ومُفاجأة للوطنين الأحرار وأصحاب الوزن الحقيقي في البلاد .
في تلك الفترة غير الشرعيّة سارعتُم بتعديل إتّفاقيّة مياه النيل ، ووُقِّعت إتّفاقيّةجديدة مُجحِفة بالسودان سواء من حيث الأموال وأوّقات سدادها الطويلة ، أو من حيث كمِّيات المياه المُتدفِّقة إلى الشمال على حِساب المُزارِع السوداني وأرضه ، ووقّعتُم تلك الإتّفاقيّة ، وأنتم
تعلمون أن الحُكم الإنقلابي غير مُفوّض من قِبَل الشعب لإبرام تلك الإتّفاقيّة التي أدّت – إلى جانب ذلك الإجحاف – إلى تشريد الأُلوف من المواطنين السودانيين من وادي حلفا .
وطوّحت ثورة شعبيّة (إكتوبر 1964م) بالحُكم العسكري ، وردت أمور البلاد إلى الشعب ليدفع إلى الحُكم من يريد بإرادته الخالصة عن طريق إنتخابات حُرّة .

أثناء فترة ما بعد إكتوبر ، حدثت في بلادنا مُحاولات شتّى لإرجاع شعبنا إلى قبضة الحُكم الدكتاتوري ولكنّها فشلت ، والذي يهمُنا هنا أن المسؤولين عن السُلطة التنفيذيّة عن الوطن تأكِّد لديهم أن مُخابراتكم كانت وراء تلك الإنقلابات .

إن بلادنا – يا سيادة الرئيس – لم يقتصر نشاطها السياسي تجاهكم – وبعد الذي حدث – على الجانب السِلبي وحده (التغاضي عن الأخطاء والإساءات والمظالم) ، ولكنّها كانت إيجابيّة في مواصلة جهودها لتهيئة جوانب لدعم العلاقات وتحسينها وتقويتها .
ففي أثناء حرب السويس 1956م ، وضعت بلادنا نفسها تحت تصرُّفكم مشاركة في المعركة ، وقياماً بالواجب وتعبيراً عن الخلق السوداني الأصيل .
وفي حرب يونيو 1967م سارعت بلادنا إلى الوقوف إلى جانبكم بكل ما تمتلك من إمكانات ، قطعت العلاقات مع امريكا وبريطانيا حسب ما أعلنته من مُشاركة هاتين الدولتين الفعليّة في المعركة لصالح إسرائيل ، وأرسلت بلادنا رجالها المُقاتلين إلى الجبهة وإستقبلت طائراتكم بعد الإنقضاض الإسرائيلي على سلاحكم الجوّي ورصدت ثروتها الحيوانيّة لتغذية الجُند وإطعام المُشرّدين .
وفي ذيول المعركة ، أدركت بلادنا مدى الأضرار التي لحقت ببلادكم من جرّاء العدوان ، فرأت أن لا بُد من القيام بواجبها للحد من تلك الأضرار وسع الطاقة ، ومن ثم نشطت في الدعوة إلى مُؤتمر قِمّة عربي يُعقد في الخرطوم .
وتعلم – ياسيادة الرئيس أكثر من غيرك – أن السودان هو الذي أقنع الدول العربيّة الغنيّة بمُساعدتكم ، وهو الذي قام بالدور السياسي في عقد المُؤتمر ، وفي إنجاح المُؤتمر المُتمثِّل –بصفة خاصّة- في الدعم المالي لكم والذي بلغ حتّى الآن نحو 400 (أربعمائة مليون جنيه إسترليني) ، والسودان هو الذي أنهى في نفس المُؤتمر المُشكلة الدامية التي أهدرت جهود مصر البشريّة والماديّة بضع سنين ، وهي مُشكلة اليمن .
ولا نريد أن نحصي أعمالنا ، ولا نمُن على مصر بما قدّمناه ، فإن ّ أيّاً من هذه الأُمور لا يتّفق والخلق السوداني .
إننا نذكر ذلك لنوضِّح مدى المُفارقات الكبيرة والمُحزنة بين ما يقدمه السودان من خير وبر، وما يتلقاه من شر وعقوق.

أن الظروف وضعتنا بين موقفين:
إما أن نسكت عن هذه المظالم ونتجرع المذلة في صمت، فنخون بذلك ربنا وإنسانيتنا وقومنا ووطننا، وإما أن نتكلم ونعارض ونرفض بحزم كل محاولة لإزلالنا والسيطرة علينا.
ولقد أخذنا الموقف الثاني لأنه هو الموقف الطبيعي والأنسب لتاريخنا وأخلاقيات أهلنا، فوق أنه هو الموقف الحق.

في خمسة وعشرين مايو(أيار) 1969م، قامت جماعة من الضباط الشيوعيين والقوميون العرب بإنقلاب، فألغت الدستور وصادرت الحريات وسجنت الناس، ولا تزال تمارس طيشها في كل مرافق البلاد، وتأكيدنا أنكم قد إشتركتم في تدبير هذا الإنقلاب سلفا في إجتماع عقد في القاهرة بين سيادتكم وبابكر عوض الله وعبدالكريم ميرغني-كان سفير العهد الديمقراطي في بلدنا وشخص رابع هو نفسه الآن من ضحايا الإنقلاب. وبمرور الأيام تنكشف الحقيقة وتنفضح إذ إنهال عونكم على الإنقلابين بشكل ملفت، خاصة في مجال الامن والإستخبارات ثم كانت الخطوة الخطيرة التي أقلقت كل سوداني وهددت حاضره ومستقبله، ففي هذه الأيام كثر الحديث عن الوحدة ونشط العمل لها من جانبكم ومن الطغمة العسكرية هنا.
وهذا أمر خطير ووخيم النتائج، وهو السبب المباشر في كتابة هذه المذكرة إليكم، ولا نمتلك في هذا الموقف إلا أن نصارحكم بموقفنا.

يا سيدي الرئيس:
أن أحدا منا لا يرفض الوحدة كمبدأ ومعارضتنا ترتكز على جملة أسباب نذكر أهمها:-
١. أن الأنظمة العسكرية هي أنظمت دكتاتورية وغير شرعية ولا تملك تفويض من الشعوب يمكنها من الإقدام على عمل خطير كهذا.
2. أن لدينا مشاكل محلية خاصة بوحدة قطرنا فالسودان يعج بأجناس شتى، وصهر هذه الأجناس بشريا، وضبط المناطق التي يعيشون فيها جغرافيا يحتاج لوقت طويل ونعتقد أن الحديث عن الوحدة اليوم لا يساعد على هذا الإنصهار وعلى الوئام القومي في بلادنا بل أنه يثير سودانيين غير عرب، خاصة وأن الوحدة التي يتحدثون عنها تنطوي على نسب عنصر عربي، ولقد صدق الواقع ما ذهبنا إليه حيث حمل الجنوبيون السلاح من جديد وعادت المشكلة الحادة التي تهدد الوطن بالفرقة والتمزق.
3. أن الوحدة التي تذهبون إليها تنطوي على إهدار لمصالح السودان وأن هي إلا حل لمشاكل نظامكم الخاصة على حساب السودان. فوحدتكم تعني أول ما تعني تهجير مليون ونصف مليون مصري إلى السودان، وهذا العدد هو الذي هاجر من بورسعيد والقنال وسبب للحكومة المصرية مشاكل في السكن والبطالة إلى جانب التذمر السياسي.
4. تعني وحدتكم تعديل إتفاقية مياه النيل مجددا لكي تأخذ بلادكم ما تشاء من مياه النيل، غير عابئة بمصالح الزراع السودانيين .
5. وتعني أن يظل السودان سوق محتكر لبضائع مفروضة عليه فرضا وتعني الإستيلاء على محاصيلنا بأرخص الأسعار، وتبدت بوادر هذه النقطة بالذات في أقدام وزارة تجارتكم على شراء كميات من قطننا بسعر رخيص كي تبيعه بسعر أعلى مستأثرة بالفروقات، بينما مصر مصدرة للقطن وإنتاجها منه مقدار إنتاجنا ثلاث مرات.
6. أن الوحدة أمنية لدى الشعوب والإرتجال في تحقيقها إنما هو إجهاض لها وتخييب لآمال الشعوب فيها. وأي مخلص لوحدة حقيقية لا يظهر إخلاصه لها إلا في حمايتها من المغامرة والمجازفة ( وحسب الناس تجربة ما حدث في وحدة سورية ومصر واليمن. فإن شعوب هذه البلاد تفضل الآن الانفصال على وحدة مزيفة شوهاء. ونحن لا نريد لشعبنا أن يكفر بالوحدة إلى الأبد إذ يرى هذا التزييف والتشويه.

يا سيادة الرئيس:
إنني بإسم المعارضة في بلادنا وهي الشعب كله بإستثناء الموصومين بعدم الولاء للوطن، أرفض أي إجراء أو إقرار يخضع السودان لسيطرة غير سيطرة أبنائه تحت أي شعار.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أبا في 18 شوال 1389هـ
27 ديسمبر 1969م.
المفـتـقـر إليـه تعـالى
الهادي عبدالرحمن المهدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى