رأي

ذاكرة الأيام

الجُرُن
الدمازين
4 ديسمبر 2022م

مدخل

بحلول الدرت “مرحلة الحصاد لدى المُزارعين” تتهلل الأسارير وتنتشر التباشير بالخير الوفير، كان شكل أول هلال يهِل في موسم الحصاد وهو واحد من أهم الأشياء الملهمة والمبشرة بالإنتاج الوافر خاصة حينما يكون “هلال ضراية” والذي يأخذ شكله إنحناءة نحو الأسفل، عند ظهوره بهذا الشكل تتبتل الجدات والأجداد بالدعوات بإن يجعله الله شهراً “هلال” بخيت وسعيد وخير مديد، وقد كُنُت أفرح لأبعد حد عندما أرى جدتي “حبوبتي شكيرو” تدعو حين رؤيتها للهلال.

مشهد أول :

ينشط الناس في عملية قطع الذُرة “الماريق” والدُخُن مُستخدمين آلة المنجل أو الحشاشة أو السكين، وذلك بإستنفار كافة أفراد الأسرة والذين يدورهم يُباشرون “المقيل بالزرع” وفي المقيل هذا تجد رُبما صاحب الزرع أعد مُسبقاً شيءٌ من “مملي” الفول السوداني والتي سأترك تعريفها لبعض القراء الذين طالما ذاكرتهم لا زالت تعُج بذكراها، يُختار مكاناً خالي من الرمال “نقعة”، يُنظف جيداً ويُصبُّ عليه شيء من ملح الطعام بغرض تعقيمه من الأفات وبهذا يكون ذلك المكان مُهيئاً ليجمع عليه العيش “الذرة،الدخن” و يُطلق عليه مُسمى “الجُرُن”، يُوضع العيش “الذُرة، الدُخُن” بالجُرُن عُدة أيام بغرض أن يجِف ويصبح جاهزاً للمرحلة القادمة.

مشهد ثاني :

“بُكرة دق جُرُن آدم الصادق، الليلة دق جُرُن أبّا أحمد، حاج الضوي قال داير يدُق جُرنو” هذه دعوة عامة وستُلبى بلا تكلُّف، كل الشباب بل كُل رجالات الحِلة يستنفر بعضهم بعضاً للذهاب إلى دق الجُرُن وعملية دق الجُرُن هذه تُقتصر على الرجال فقط إلا أن زوجة صاحب الجُرُن ونساء الحِلة يقُمن بإعداد الوجبة للرجال والتي دائماً ما تكون عصيدة من الدُخُن بملاحات الرُوب والتقلية والتي لابد من أن يصحبها السمن وإن كان الدجاج بالمنزل “خيرو وافر” يومها سيُذبح عددٌ مُقدّر مِن “الفراريج الكُرُكاب” ولك أن تجتهد عزيزي القاريء للتعرف على “الكُرُكاب”، الكرم يا عزيزي القاريء في مُعظم بوادي كُردفان “دُجاجة تُذبح”.
دق الجُرُن هو الخطوة الأولى في عملية تنقية وإزالة الشوائب من المحصول وتستخدم فيه آلة “المُدقاقة” والتي تُصنع يدوياً من أخشاب الأشجار، بكل حيوية ونشاط يقوم “الصُبيان” بدق الجُرن والذي ربما تصحبه في الخواتيم أغاني “الرفة” “خصوصاً إذا كان الجُرُن يسرُ الناظرين” و “الرفة” هي شيء من التراث الباعث للحماسة في بوادي كُردُفان.

مشهد ثالث وآخير :

في اليوم الثاني أو الأيام التي تعقب دق الجُرُن يأتي دور كوشي بت موسى “سيدة الجُرُن” وتصحبها حليمة بت فضل المولى وبقية الجارات ونساء الحِلة في موكب بهيج يحملن أطباق “طُباقة” التضراة، فالتضراة هي المرحلة الآخيرة والتي فيها يحضر صاحب الزرع شوالات “جوالات” الخيش “تلاتين ملوة” ليرى حصاد موسمه “دُخُن أصفرررررر”.
فهذا اليوم وجب أن يُذبح “تيس” لنساء التضراة “بِسم الله، الله أكبر، كرامة وسلامة”.
لا يفوتني أن أذكر بإن المُزارع حينما يبدأ بوضع أول بذرة في “الحُفرة” بداية الخريف يحرص بإن يقول “بِسم الله، للغاشي والماشي” لتبرأة كل من يأخذ من زرعه شيء دون إذنه، ويختمها بكرامة وسلامة.

خالد علي إغيبش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى