
وجدت نفسي مرغماً لكتابة هذا المقال بعد مقالين حاولت من خلالهما أن أقول شكراً فقط لممثلي ديالا، ومشروع د. عزام الإعلامي. وكان في النية مواصلة الوقوف على تجارب شبابية أخرى في مجال التحليل السياسي، والكتابة الفكرية، والأدبية، والإعلامية في محاولة للإنصاف وفقاً لمرئياتي كمتتبع لهذه المجالات، وبوصفي كاتباً لديه الحق في أن يعبر عن امتنانه لهذه المجهودات الشبابية التي أدرك – بجانب إيجابياتها – قصورها الذاتي، والموضوعي، لتحقيق المثال. ذلك مهما كانت وجهة نظري مختلفة كليةً عن رؤى آخرين يرون غير ما أرى. ولم تكن في نيتي أبداً بينما كنت أفكر في هذا المشروع العرفاني أن أناقش جزئيات محددة في إنتاج هؤلاء الشباب بقدر ما كنت أركز بالمقال الصحفي على الصورة العامة التي بدت عليها هذه التجارب الواعدة التي تنطرح هكذا في فضاء الإعلام الحديث. ولكنها تفتقد للنقد البناء، أو حتى التشجيع الذي دائما ما نكبته في دواخلنا مخافة أن نصرح به إزاء كل مبدع جديد يرجى منه. وفي أمثالنا البالية: “الشكرو قداموا نبذو”، و”الله لا جاب يوم شكرك”.
ومبعث هذا المشروع الذي ابتدرته ينحاز للجمال وفق تصوراتي هو أنني بلغت سناً تجعلني في مقام آباء هؤلاء الشباب، أو أخيهم الأكبر، وهذا ما يجعلني حميماً، ورؤوفاً، بكل تجربة واعدة. ومن ناحية ثانية استذكرت كيف أننا حينما أتينا إلى مجال قد وجدنا تشجيعاً مثمراً لتجاربنا الفطيرة وفتها من أساتذة أجلاء منحونا الفرصة للعمل الإعلامي ثم الكتابة. ذلك برغم ما في تجاربنا الأولى من ضعف ظاهر في الفكرة، واللغة، وحيلة المحاججة للإحاطة التامة بالموضوع. وهكذا مارسنا العمل الإعلامي بالخطأ، والصواب، حتى تدربنا بشكل جعلنا نثق أننا اكتسبنا تجارب معقولة ما نزال نريدها متجودة سنة إثر أخرى. وبالمقابل استذكر كيف أن تجاربنا الأولية تلك كانت تواجه بالصد من بعض الراسخين في المجال. وكثيراً ما كان بعض متعطلين يحفرون لنا، وأحيانا يسخرون منا، ومن إنتاجنا، وضوحاً أو هذراً. ولم يكن هذا الصد الخائف سوى حسد من أولئك الذين تكلست رؤاهم فتوقفوا دون تطوير أدواتهم بالمزيد من القراءة، والتأمل، وتكثيف الإنتاج. ولذلك كانوا يعرقلوننا بعدم النشر، أو توجيه انتقادات غير موضوعية بعد النشر، محاولةً للتقليل من المجهودات. ولكن الحسد المهني، أو الاستهداف الشخصي، كان هو جوهر هذه الانتقادات لا غير.
الشي الآخر فإنني من خلال مسيرتي الإعلامية التي قاربت الأربعة عقود أتيحت لي الفرصة للعمل في كل مجالات الإعلام من صحافة ورقية، وإذاعة، ومواقع إنترنت لتغطية الشؤون السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والفنية. وأدركت مدى توطن الحسد وسط هذه المجالات بدرجة مخيفة لا يعلم بها إلا الله. بل أستطيع القول بعد هذه السنين الطويلة إن مجالات السياسة، والفكر، والثقافة، والأكاديميات، والفنون، والإعلام، مليئة بعدد مهول من الحاسدين تجاه إنتاج زملائهم. وأظن أن هذه الحرب الدائرة الآن تعود جذورها إلى “الحسد العويص” وسط قادتنا السياسيين الذين ضيعوا فرص تحقيق السلام، والتنمية. والتقدم. وهذا باب واسع يحتاج إلى باحث ذكي لتلمس جذوره. ولكن ما رسخ في ذهني أن نزق الحسد المصاحب بالنرجسية في مجالات الإبداع معشش فيها بصورة مؤسفة.
-٢-
الجيل الحالي الذي اعتبره ضحية استشراء الحسد السياسي ما جعله مهمشاً في تنظيماتنا السياسية في ظل هيمنة الكبار ينبغي ألا يسير في هذا النهج الموروث، وأن يجد من الأسباب ما يجعله أكثر قدرة على تحقيق التنافس الشريف. بل إن المتوقع أن يحمله نجاح تجربة إبداعية جديدة هنا وهناك أن يراجع الأفراد فيه أدواتهم الفنية باستمرار. ذلك أن كل موهبة جديدة تلفت نظرنا، وتحقق حضورها، هي إنما سبب لتعميق المعرفة بمجال إبداعها أكثر فأكثر. وهذا ما يساعد التجارب المجاورة في تأكيد الجدارة في التنافس، بدلاً عن الاستهداف الشخصي للمبدع بواسطة أدوات النقد الهدام. والنقد الموضوعي له أصوله، ولا يقوم على المهاترات، أو استخدام العبارات الجارحة الموجهة لعمل المبدع، أو التركيز على التهجم على الشخصية أكثر من العمل، أو إسقاط الموقف السياسي للناقد على الشخصية المنتقدة بدافع الابتزاز، والتقليل من شأن المطروح. ولذلك قال نقاد بنيويون بأهمية قتل المؤلف ليكشف العمل عن ذاته، لا شخصه.
نحن نفهم أن النقد عن محبة درجة عرفانية لا يبلغها إلا من تحرر عن الغرض الذاتي. وفي ذات الوقت فإن النقد الصادر عن كره شخصي للمنتج ينم عن قصور معرفي، وأخلاقي، ليس إلا. فالناقد الحادب لا يترك العمل، ويتهجم على منتجه. بل يسعى بالوعي لتفنيده وفق حيثيات تخلق معرفة جديدة، وتنبه الكاتب لسلبيات في عمله. وبالتالي يستفيد في مستقبل أعماله من رجاحة النقد، والنقاد، في إنارة الدرب. وإذا عذرنا القارئ، أو المستمع، أو المشاهد، الذي مهدت له الوسائط الحديثة الفرصة لشتم الروائي، أو المغني، أو المذيعة الجديدة، بعد الوقوف على أعمالها فإننا لا نعذر الناشط الواعي في هذه المجالات، والذي يصدر في عمله عن ثقة لتمديد الاستنارة المجتمعية.
لاحظت كذلك في مجهوداتي المتحيزة لبعض المبدعين من الجيل الرائد، والوسيط، أن بعضهم يمتليء بالغبن لو أنك تناولت ناشطاً إبداعياً بالإشادة. وكثيرا ما رأيت بعضهم يمتليء حنقاً لمجرد إبداء وجهة نظرك في الإعلاء من قيمة فنان، أو درامي، أو أديب، وبالتالي يسلبون حقك في التعبير عن إحساسك. ولكل هذا لا تجد في الأرشيف مبدعاً في المجال مدح زميلاً له في منصات الرأي العام، واعترف له بالإضافة الثقافية، والفنية. وكشاهد عصر محايد وسط هؤلاء المبدعين وقفت على تراث هائل من الحسد، والغيرة، التي لا تبقى مكبوته في الصدر، وإنما تتحول إلى السخرية من قبيلة المبدع، أو تتناول حياته الخاصة، أو غيرها من ردود الفعل التي تكشف عن قصور أخلاقي.
وكنت قد وقفت على إفادات حاسدة من بعض زملاء يوسف الموصلي لما بذله في التوزيع الاوركسترالي ما أدى إلى إنتاج عشرات الألبومات عبر شركة حصاد في النصف الأول من التسعينات. أما الحسد الذي واجهه الفنان أحمد ربشة من مبدعينا فتلك سيرة وقفت عليها بكثير من حزن، وقد حرمه المشتغلون في المجال وقتها من تسجيل أعماله حتى أجبروه على مغادرة السودان الذي أحبه. وأشهد الله أنني لو كتبت عن كل ما سمعته أذني، وخبرته، عن نماذج الحسد الذي عاصرتها في المشهد الإبداعي طوال هذه العقود لقدمت صورة غير مثلى لمبدعين كثر، وكبار، يعيشون في ذاكرة جمهورهم.
-٣-
ولئن كان هذا الحسد، وعدم التقدير، تجده بدرجات متفاوتة وسط بعض المسرحيين، والصحفيين، والتشكيليين، والأكاديميين، والروائيين، والمغنين، والنقاد، والمذيعين، والكتاب، فهو نار مستعرة في دواخل بعض البشر، ولكن تنطفيء حين لا يلتفت إليها المبدع الواثق من قدراته، فالزبد يذهب جفاءً. واعتقد أن هذا الحسد يعبر عن مرض النفوس، وما لم نحاربه فلن نستطيع أن نبني دولة لو أن غاية المبدع في كل هذه المجالات أن يعلم المتلقين معنى احترام الناس، ويخلصهم من سخائم النفس، ويغسل دواخلهم من أدرانها حتى يتيسر لنا تنمية الإنسان ليكون مساهماً في البناء المجتمعي.
النقد الموضوعي الذي يضع التجربة الإبداعية للإعلامي، أو الدرامي، أو المغني، مطلوب بلا شك. وأدواته معروفة، وطرقه متعددة. بل إن النقد هو الساق الثانية للإبداع، ويكتمل به. ولكن للأسف فإن النقد الذي يواجه التجارب الشبابية الجديدة أصبح نوعاً من التشفي، والإرزاء، والمرمطة بسمعة المنتج ما يدل هذا على وجود أزمة اخلاقية كبيرة، وعلى الحريصين على التنافس الإبداعي الشريف أن يقاوموا هذا النقد المتشفي، وألا يتستاهلوا معه. فكل مبدع في وسائط التواصل الحديثة معرض هو نفسه لأن يكون ضحية حين يعرض للرأي العام قصيدته، أو مسلسله، أو مقاله، أو ترجمته، أو قصته القصيرة، أو مادته الملتيميدية.
أفهم تماما أن كل عمل يمتلك قصوره الموضوعي، والذاتي، فالكمال لله وحده. ولكن هذا القصور في ناحية ما هو إلا جزء من مسار المبدع طوال حياته، ولا يجرمننا ضعف عمل هنا وهناك أن نهيل التراب على جسد المنتج. فالمبدع صاحب المشروع صيرورة نحو التطور المستمر حتى مماته. ولو أن طائر الفينيق يستل نفسه من الرماد فالتجارب الضعيفة في هذه المجالات تتطور متى ما طور المبدع أدواته، وزاد تحصيله بمطلوبات التفوق. ولكن انشغال المبدع بنقد زملائه باستمرار دون الاهتمام بتطوير أعماله فذاك يعني الانطلاق من النرجسية المريضة، والأستاذية الكاذبة، للوقوف في القمة كما يُظَن. فدعونا بالله نسعى أن نقول لمن أحسن أحسنت، وكفى. وعين الرضا عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساويا.