
في أواخر مايو 2022، طُرِح على مني أركو مناوي، سؤالٌ بسيطٌ خلال مقابلة تلفزيونية، لكنه كان كفيلًا بإشعال غضبه وانفجاره في مواجهة المذيعة. حين سألته عن سبب وجود قواته في ليبيا، لم يجد إجابة مقنعة سوى الاعتراف بأنهم لجأوا إليها هربًا من الهزيمة التي تلقوها على يد قوات الدعم السريع والجيش السوداني. وردًا على السؤال، تساءل مناوي ساخرًا: “إلى أين تريدين منا الذهاب؟ إلى السماء ذات البروج؟”.
وربما لم يكن يدري أن هذا السؤال سيصبح مدخلًا لتحليل واقعه السياسي والعسكري اليوم، بعد أن فقد معظم ما كان يمتلكه من نفوذ، وسلطة، وقوة عسكرية. واليوم، وبعد مرور أكثر من عامين على ذلك المشهد، باتت الإجابة على سؤاله أوضح من أي وقت مضى.
🔹 من السلطة إلى التبعية: كيف خسر مناوي كل شئ؟
كان من المفترض أن يكون مناوي، وقادة الحركات المسلحة الأخرى، في موضع قوة بعد توقيع اتفاق جوبا للسلام، حيث منحهم الاتفاق نفوذًا سياسيًا ودستوريًا يتجاوز حتى صلاحيات رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، خاصة مع النص الذي يقرّ بأن أحكام اتفاق جوبا تعلو على الوثيقة الدستورية في حال حدوث أي تعارض. ولكن بدلًا من استثمار هذا النفوذ في إدارة المرحلة الانتقالية لصالحهم، قرر مناوي وحلفاؤه التورط في انقلاب 25 أكتوبر 2021، ليصبحوا شركاء في حكم عسكري أفقدهم تدريجيًا كل امتيازاتهم.
فمع مرور الوقت، تمكن البرهان من تجريد مناوي من سلطاته كحاكم لإقليم دارفور، فبات مجرد حاكم صوري بلا صلاحيات، دون أن يتمكن حتى من إجازة قانون إقليم دارفور المنصوص عليه في اتفاق جوبا. وحين اندلعت النزاعات في نيرتتي، كولقي، زالنجي، وحتى الفاشر، وقف مناوي عاجزًا عن التدخل أو فرض سلطته، وخرج في تصريحات تلفزيونية يعترف بأن الأجهزة الأمنية هي المتورطة في زعزعة استقرار الإقليم، لكنه لا يملك أي سلطة قانونية لمحاسبتها أو كبح جماحها.
هكذا، وجد مناوي نفسه في نفس الوضع الذي كان عليه عام 2006، عندما وقّع اتفاقًا هشًا مع نظام البشير جعله مجرد مساعد بلا نفوذ، دون أن يدرك أنه وقع هذه المرة في شَرَكٍ أشد إحكامًا.
🔹 الإستخبارات العسكرية وإضعاف أتفاق جوبا : كيف تم التلاعب بمناوي؟
كان واضحًا أن الاستخبارات العسكرية السودانية، وبالتنسيق مع الجيش، كانت تدير مخططًا دقيقًا لإضعاف اتفاق جوبا للسلام، وذلك عبر إشعال الفوضى في دارفور وصناعة حركات مسلحة وهمية تزعزع الاستقرار، وهو ما أدى إلى كشف عجز مناوي وقادة الحركات المسلحة، خاصة بعد أن فقدوا أقوى ورقة كانت في أيديهم: اتفاق جوبا نفسه.
وبينما كان الجيش يكرّس هيمنته تدريجيًا، وجد مناوي نفسه في دور التابع لا القائد، حيث تم استخدامه كأداة لإفشال أي عملية سياسية تهدف إلى إنهاء الانقلاب العسكري، بما في ذلك العمل على تقويض الاتفاق الإطاري عبر مبارك أردول، الذي أقرّ صراحة بأنهم قاموا بشراء مديري المخابرات والاستخبارات العسكرية لصالح نائب قائد الجيش شمس الدين كباشي.
🔹 خسائر مناوي: ماذا تبقى له؟
بفعل هذه التحولات، خسر مناوي تقريبًا كل شيء، ويمكن تلخيص خسائره في:
✅ ملايين الدولارات التي كانت تُخصص لحركته بموجب اتفاق جوبا.
✅ منصب حاكم إقليم دارفور، حيث أصبح بلا أي صلاحيات حقيقية.
✅ السلطة الدستورية لاتفاق جوبا، التي أصبحت غير ذات قيمة بعد أن تم تجاوزها فعليًا.
✅ فرصة دمج قواته في جيش وطني موحد، حيث تم تجميد بند الترتيبات الأمنية بالكامل.
ومع مرور الوقت، أصبح واضحًا أن مناوي وحلفاءه في القوات المشتركة فقدوا أي قدرة على التأثير أو فرض أجندتهم السياسية، وباتوا مجرد بيادق في يد المؤسسة العسكرية، التي استغلتهم لإفشال أي مبادرات سياسية، ثم زجّت بهم في الحرب الحالية ضد قوات الدعم السريع.
🔹 إلى أين يذهب مناوي؟ السماء ذات البروج أم مصر؟
اليوم، يبدو أن مصير مناوي وقادة القوات المشتركة قد تحدد بالكامل، فلم يعد لديهم أي نفوذ داخل إقليم دارفور، كما أنهم باتوا تحت سيطرة تامة من الجيش والمخابرات المصرية. فبدون دعم البرهان ومصر، لن يملك مناوي أي ورقة ضغط سياسية أو عسكرية، خاصة في ظل تسارع الاحداث السياسية و اعتزام تحالف السودان التأسيسي. اعلان حكومة ستكون الفاشر جرء منها مما يجعلهم أمام خيارين لا ثالث لهما:
1️⃣ الذهاب إلى “السماء ذات البروج” كما تساءل هو ساخرًا قبل عامين.
2️⃣ الانخراط في مشروع جديد لصالح مصر، عبر المساهمة في زعزعة استقرار ولاية الجزيرة، وتحويلها إلى منطقة غير صالحة للعيش، إلا لمن يحمل السلاح ويدين بالولاء لمصر.
وفي هذا السياق، بدأت مصر بالفعل في تنفيذ مخططها داخل الجزيرة، بعد أن منحها الجيش السوداني أراضي الولاية، عقب انسحابه منها. ولم يكن هذا الانسحاب قرارًا عسكريًا بحتًا، بل خطوة استراتيجية تهدف إلى إخلاء المنطقة من سكانها الأصليين، وخلق بيئة غير آمنة عبر جلب الحركات المسلحة، بحيث لا يستطيع العيش فيها سوى من يفرض سلطته بقوة السلاح.
وبالتالي، فإن ما يجري الآن من انعدام للأمن والاستقرار في ولاية الجزيرة ليس مجرد فوضى عشوائية، بل هو المرحلة الأولى من تنفيذ المشاريع المصرية، بيد الجيش السوداني، لإعادة تشكيل المنطقة ديموغرافيًا لصالح المخطط المصري.
وفي النهاية، قد لا يكون من المستغرب أن نجد مناوي يعمل في أحد الحقول هناك، بعد أن أصبح مجرد أداة تُستخدم عند الحاجة، وتُستغنى عنها متى ما انتهى دورها.
مناوي.. النهاية السياسية؟
لم يعد السؤال “إلى أين تريدون منا الذهاب؟” يحمل أي غموض اليوم، فالإجابة أصبحت واضحة: لم يعد هناك مكان لمناوي في المعادلة السياسية، ولم يعد أحدٌ ينتظر قراراته، او بقاء قواته في الشمال لأن مصيره لم يعد بيده .
أما متى سيكتشف ذلك بنفسه؟ فهذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة