
■ مقدمة: رهان الطيران وصدمة الواقع
منذ اللحظة الأولى التي شنت فيها قوات الجيش السوداني المدعومة بالحركة الإسلامية هجماتها الجوية على معسكرات الدعم السريع، كان واضحًا أن الجيش يراهن بالكامل على سلاح الطيران لحسم الحرب سريعًا. لم يكن هذا مجرد افتراض، بل ظهر جليًا في التصريحات الواثقة التي أطلقها قادة الجيش والإسلاميين، حيث قالوا إن الحرب ستنتهي في أربع ساعات، ثم أصبحت ست ساعات، ثم تحولت إلى أسبوع أو أسبوعين كما زعم ياسر العطا.
لكن مع تساقط الطائرات الحربية واحدة تلو الأخرى على يد قوات الدعم السريع، أصبح واضحًا أن الطيران وحده لن يكون العامل الحاسم في هذه الحرب. حينها، قال محمد حمدان دقلو حميدتي ساخرًا: “طيران الجيش ليس فيه غير بضع طائرات، وأنا من اشتريتها”.
كان هذا التصريح يحمل في طياته حقيقة استراتيجية أدركها الدعم السريع منذ البداية، وهي أن الجيش لا يمتلك تفوقًا جويًا حقيقيًا، وإنما كان يعتمد على عدد محدود من الطائرات، بعضها متقادم، وأخرى حديثة لكنها لا تكفي لإدارة حرب طويلة الأمد، و أن وجود المصريين في قاعدة مروي هو من أجل دعم الجيش في حرب مباغتة ستُشنَّ ضده في أي لحظة.
■ سقوط الطائرات: الطيران وحده لا يكفي
مع تصاعد معارك المدن، تحولت الحرب إلى اختبار حقيقي للقوة الجوية. لكن الدعم السريع أثبت قدرته على تحييد سلاح الجو، ما أدى إلى خسائر فادحة للجيش وتراجع في قدرة قواته على المناورة والتقدم الميداني. ومع ذلك، لم يكن الجيش مستعدًا للاعتراف بهذا الفشل، فبدأ بالبحث عن دعم خارجي يعوض خسائره الجوية.
■ التدخل المصري… نقطة التحول المؤقتة
كان التدخل المصري أحد أهم العوامل التي أوقفت التقدم الصاروخي للدعم السريع، حيث أصبح الطيران المصري قوة حاسمة في المعارك الجوية، وتمكن من تنفيذ عمليات قصف دقيق ضد أهداف عسكرية واستراتيجية تابعة للدعم السريع، وهو ما منح الجيش بعض الوقت لإعادة ترتيب صفوفه واستعادة بعض المناطق التي فقدها، مثل جبل موية وسنجة وجزء كبير من ولاية سنار، إضافة إلى السيطرة على ولاية الجزيرة وثلثي العاصمة الخرطوم.
لكن في خضم هذا التقدم، تناسى الجيش وحلفاؤه أن ميزان القوى في الحروب الحديثة لا يظل راجحًا لطرف واحد لفترة طويلة، خاصة إذا كان الخصم قادرًا على الحصول على الأسلحة نفسها، أو تطوير قدرات جديدة تجعله قادرًا على تحييد قوة الطيران تمامًا. لم يدرك الجيش وحلفاؤه في بورتسودان والقاهرة أن الدعم السريع كان يعمل على بناء تحالفات سياسية وعسكرية تهدف إلى تغيير موازين القوى بشكل كامل.
■ غفلة بورتسودان والقاهرة: الخصم يتطور ويتحول
مع انشغال الجيش بنشوة الانتصارات المؤقتة، غفل عن التحالفات السياسية والعسكرية التي كان الدعم السريع يعمل على تشكيلها. لم تكن هذه التحالفات مجرد تحركات سياسية، بل كانت خطوات استراتيجية تهدف إلى تغيير طبيعة المعركة نفسها.
لم يفهم تحالف الجيش والإسلاميين أن انضمام الحركة الشعبية شمال جناح الحلو والحركات المسلحة بقيادة الطاهر حجر والدكتور الهادي إدريس إلى تحالف الدعم السريع، يعني أن الحرب ستدخل مرحلة مختلفة كليًا. هذه القوى تمتلك خبرة طويلة في القتال ضد الجيوش النظامية، وتدرك في عالم اليوم و تطوره كيف يتم تحييد سلاح الطيران، وتعرف كيف يمكن تحويل أي تفوق جوي إلى نقطة ضعف قاتلة، وهي لم تكن ستدخل إلى هذا التحالف دون آن تكون قد حصلت مقدماً على كل المعينات و الأسلحة التي لن تجعلها هدفا للطيران.
عندما سُئل الهادي إدريس عن سقوط طائرات الجيش في الفترة الأخيرة، وما إذا كان ذلك ناتجًا عن امتلاك التحالف لطائرات حربية أو منظومات دفاع جوي متطورة، أجاب بثقة: “هذه فقط المناظر”، في إشارة إلى أن القادم سيكون أعنف وأشمل مما يتوقع الجيش وحلفاؤه.
■ حرب المسيرات: السماء تتحول إلى جحيم
مع تزايد أهمية الطيران والمسيرات في المعركة، بدأ الدعم السريع وحلفاؤه في تطوير قدراتهم الجوية. لم يعد الأمر يتعلق بمحاولة إسقاط طائرة أو اثنتين، بل أصبح الهدف هو السيطرة الكاملة على المجال الجوي السوداني، ومنع أي طائرة عسكرية تابعة للجيش أو حلفائه من الإقلاع أو العمل بفعالية.
حصل الدعم السريع على أسطول من المسيرات الهجومية CH-95 و CH-92A، وهي طائرات مسيرة ذات مدى عملياتي طويل وقدرة على تنفيذ هجمات دقيقة ضد الأهداف الثابتة والمتحركة. كما حصل على منظومات تشويش إلكتروني متطورة قادرة على تعطيل الاتصالات بين الطائرات ومراكز القيادة، إضافة إلى مسيرات انتحارية متقدمة يمكن استخدامها لضرب مدارج الطيران وتدمير الطائرات وهي على الأرض.
■ القاهرة أمام خيار التدخل المباشر… بداية الانهيار
التطورات العسكرية الجديدة دفعت القاهرة إلى التفكير بجدية في التدخل العلني في الحرب السودانية، خاصة مع تصاعد التهديدات ضد الطيران المصري في السودان. كانت مصر تلعب دورًا خفيًا في البداية، عبر تقديم دعم استخباراتي ولوجستي للجيش، لكنها الآن تواجه معضلة حقيقية:
•إذا استمرت في دعم الجيش بالوتيرة الحالية، فإن قوات الدعم السريع ستتمكن من استهداف الطيران المصري داخل قواعده الجوية، مما سيوجه ضربة مباشرة لهيبة القاهرة العسكرية.
•إذا قررت التدخل العلني في السودان عبر إرسال قوات أو زيادة العمليات الجوية، فإنها ستواجه استنزافًا طويل الأمد في حرب لا يمكنها الانتصار فيها بسهولة.
•أي تصعيد عسكري مصري سيجرّها إلى مواجهة إقليمية غير محسوبة العواقب، خاصة وأن الدعم السريع وحلفاءه أثبتوا قدرتهم على الحصول على إمدادات عسكرية متطورة توازي ما يملكه الجيش المصري.
■ لماذا سيكون التدخل المصري بداية خسارة الحرب؟
1.إستنزاف الجيش المصري: الدخول في حرب برية أو تكثيف الضربات الجوية داخل السودان سيؤدي إلى خسائر فادحة في المعدات والأفراد، وسيتحول السودان إلى مستنقع إستنزاف للقوات المصرية.
2.تعزيز تحالفات الدعم السريع: أي تدخل مصري سيؤدي إلى مزيد من التحالفات الدولية والإقليمية لصالح الدعم السريع، وسيفتح الباب أمام قوى أخرى لدعمهم عسكريًا بشكل أكبر.
3.إنهيار شرعية تحالف بورتسودان: إذا تدخلت مصر علنًا، فسيصبح تحالف الجيش والإسلاميين مجرد تابع للقاهرة، مما سيفقده أي شرعية داخلية وسيؤدي إلى تصاعد المعارضة له داخل السودان.
4.تفوق التكنولوجيا المضادة للطيران: الدعم السريع لا يسعى فقط إلى إسقاط الطائرات، بل إلى تحييد كامل لمنظومة الطيران عبر التشويش والمسيرات الانتحارية، وهو ما يجعل أي تفوق جوي مصري مؤقتًا وقابلًا للإبطال خلال فترة قصيرة.
■ الخاتمة: السماء لم تعد للجيش… ولا لمصر
الطائرات التي كانت تحلق بحرية في سماء السودان، أصبحت الآن أهدافًا واضحة في نظر الدعم السريع وحلفائه. لم يعد السؤال هو متى سيتم إستهداف الطيران المصري والسوداني، بل كيف ستكون الضربة الأولى، ومتى ستبدأ مرحلة الإجهاز على ما تبقى من القوة الجوية للجيش.
السماء لم تعد مكانًا آمنًا للجيش، والمطارات التي كانت مراكز قوته قد تتحول قريبًا إلى نقاط انهياره الكبرى. أما مصر، فإن قرارها بالتدخل المباشر قد يكون أول خطوة في خسارتها للحرب قبل أن تبدأ في إدراك ذلك.