تقارير

مجزرة على ضفاف النيل .. قتل سكان “الكنابي” ذبحاً وحرقاً

مرصد SPT – ترجمة : صحيفة البلاد

مجموعة من جنود الجيش يتحلقون حول شاب أعزل يرتدي ثياباً رياضية ينزف دماً من رأسه. أحد الجنود الذين كانوا يلتفون حوله يسأله: “إنت من وين؟” وهو يتأوه ولا يستطيع الإجابة. قال أحد الجنود – ويبدو أنه القائد – آمراً من معه: “افتح راسه بالساطور”، وإذا بأحد الجنود يحمل ساطوراً ويضرب به جمجمة الشاب مرتين، ما أدى إلى شجها وتدفق الدم بغزارة. هتف جندي آخر: “اذبحه بالمرة”، وإذا بهم يسحبون الشاب على الأسفلت، ويضع أحد الجنود رأسه على حافة رصيف الشارع، ويقطع جزءاً من عنقه بسكين طويلة. كان الشاب يتلوى من الألم، ويتوسل إلى قاتليه بأن يبقوا على حياته دون جدوى. حاول الضحية الحبو وهو برأس نصف مقطوعة، قبل أن يطلق عليه الجنود وابلاً من الرصاص، ثم يصبون عليه البنزين وهو بين الحياة والموت ويشعلون النار فيه. عذبوه وقتلوه وحرقوه، ثم مضوا في طريقهم وكأن شيئاً لم يكن.

كان هذا المشهد الصادم الذي حدث في وسط منطقة بحري بالعاصمة الخرطوم عصر يوم 29 يناير الماضي الأقل فظاعة من بين عشرات الفيديوهات التي شاهدناها والتي تمت فيها جميع الفظائع التي لا تخطر على بال بشر: ذبح، بقر البطون وإخراج الأمعاء، قطع الرؤوس ورميها كالكرات، تقييد العزل ورميهم في النهر وفي الترع ومجاري المياه، حرق البيوت وبداخلها نساء وأطفال، التقييد بالحبال ثم القتل بإطلاق الرصاص من على القرب بواسطة بنادق آلية. فظائع لم يسبق لنا أن رأيناها في أي مكان آخر في هذا العالم.

بداية المجزرة

بعد دخولها إلى ولاية الجزيرة في الحادي عشر من يناير الماضي، إرتكبت قوات الجيش ومليشيا درع السودان، التي يقودها كيكل، إلى جانب مليشيات الإسلاميين، وأبرزها مليشيا البراء بن مالك ومليشيا البرق الخاطف، عددًا كبيرًا من الإنتهاكات الفظيعة في مدينة مدني، عاصمة الولاية الواقعة وسط السودان على ضفاف النيل الأزرق.

غير أن الفظائع الأكبر والأشد وقعًا إرتُكبت في كنابي الولاية.

رحلات السودان

و”كنابي” هي جمع كمبو، وهي مفردة مشتقة من الكلمة الإنجليزية كامب، وتشير إلى مساكن مشيدة من الطين والقش، يقطنها العمال الزراعيون القادمون من غرب السودان، وأغلبهم من دارفور.

إستوطن هؤلاء العمال هذه المناطق منذ أربعينيات القرن الماضي، حيث عملوا في الزراعة بمشروع الجزيرة، ومع مرور الزمن، تحولت الكنابي إلى قرى وتجمعات سكانية أكبر.

لكن سكانها ظلوا يعانون من التهميش السياسي والإقتصادي والإجتماعي.

وفي عهد الحكومة المدنية الإنتقالية، أسس بعض شباب الكنابي كيانًا للدفاع عن حقوقهم، أطلقوا عليه مركزية مؤتمر الكنابي.

إستهداف ممنهج

كان الإستهداف ممنهجًا ضد سكان الكنابي، حيث مورست عمليات القتل والإنتهاكات على أسس إثنية بشكل واضح، وكان أبرزها ما عُرف بـ”مجزرة كمبو خمسة” أو “كمبو طيبة”.

هناك إرتكب جنود الجيش ومليشيا كيكل، بمشاركة عناصر من مليشيا البراء بن مالك والبرق الخاطف، إنتهاكات جسيمة.

قُتل العشرات، بينهم نساء وأطفال، وأُحرقت منازلهم، كما تعرضوا للتهجير القسري بعد خطف بعض نسائهم وفتياتهم. بالإضافة إلى ذلك، عانوا من النهب والتشريد، حيث سُرقت محاصيلهم الزراعية ومواشيهم.

وفي بعض المناطق، أضرمت المليشيات النار في المنازل التي كان يختبئ داخلها بعض الشباب خشية القتل، وفقًا لشهادات بعض الناجين.

شهادات ناجين

قالت (ن)، التي كانت تسكن في أحد الكنابي، ونُشير إليها بالحرف الأول من إسمها لدواعٍ أمنية، إنّها وأسرتها كانوا محظوظين بمغادرة المنطقة لظروف خاصة قبل وصول هذه القوات.

وأضافت: “لكن ما رأيناه وسمعناه من أهلنا وأصدقائنا عن الإساءات والانتهاكات وعمليات الإعدام الجماعي ضد الأبرياء كان فوق الإحتمال. لقد ذبحوا أولادنا وصفّوهم بطريقة وحشية. لقد اتهموهم بالتعاون مع قوات الدعم السريع، هذا كذب، لم يكن الأمر كذلك. كان الهجوم منظّمًا واستهدف مجموعات عرقية بعينها، وهي التي تعود أصولها إلى دارفور وكردفان وبعض مواطني دولة جنوب السودان الذين يعيشون معنا. قتلوا أهلنا وأحرقوا جميع بيوتنا، وهم يصيحون “الله أكبر” ويطلقون علينا أوصافًا مهينة مثل جواسيس وعبيد”.

أما أحد أعضاء مؤتمر الكنابي – نتحفظ على ذكر إسمه – فقد وصف ما حدث بأنه تطهير عرقي، مشيرًا إلى أن الأحداث أسفرت حتى الآن عن مقتل ما بين 1000 إلى 1200 شخص في جميع الكنابي، ولا تزال الهجمات متواصلة على بعض المناطق. هذا فضلًا عن عشرات المصابين والمفقودين من الرجال والنساء، إضافة إلى الآثار النفسية والمادية الهائلة، حيث تم إحراق غالبية الكنابي وسرقتها وتشريد سكانها.

شجاعة النساء

لم تكن النجاة من هجمات الجيش وحلفائه من المليشيات الإسلامية وقوات درع السودان رحمةً للشيخ إبراهيم، ذلك الرجل المسن البالغ من العمر 72 عامًا، والذي يسكن في (كمبو طيبة) وشهد كل الفظائع التي ارتُكبت بحق أهله. بل كانت نجاته أكثر إيلامًا، إذ قال إنه دفن وحده 26 شخصًا، ولم يتمكن من دفنهم في يوم واحد، فاضطر للانتظار حتى اليوم التالي.

وفي ذات اليوم، دفن 17 آخرين من سكان قريته، مشيرًا إلى أن عمليات الدفن كانت تتم في مقابر جماعية بسبب عدم وجود من يساعده من الرجال.

وأشاد الشيخ إبراهيم بشجاعة نساء القرية (الكمبو)، قائلًا إنه لولا مساعدتهن له في دفن الموتى لما تمكن من ذلك وحده، حيث إن رجال القرية إما قُتلوا أو فرّوا أو فُقدوا. وأضاف أنهم اضطروا إلى تهريب وإخفاء بعض شباب القرية خوفًا من قتلهم على يد المليشيات.

إعدامات الشباب في مدني

في مدينة مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، نفذت قوات تضم مليشيات إسلامية، مثل قوات العمل الخاص وكتيبتي البراء بن مالك والبرق الخاطف، إلى جانب عناصر من جهاز الأمن والمخابرات الخاضع لسيطرة الحركة الإسلامية، حملة إعدامات ميدانية داخل أحياء المدينة في اليوم الأول من دخولها.

وتشير مصادر متطابقة إلى أن عدد القتلى في ذلك اليوم تراوح بين 37 و45 شخصًا، معظمهم من النشطاء، وأعضاء لجان المقاومة، والشباب الذين شاركوا في الثورة التي أطاحت بالنظام الإسلامي السابق بقيادة الجنرال عمر البشير عام 2019.

وقال أحد شباب التغيير في المدينة إن الحملة كانت انتقامية، حيث أُجبر بعض الشباب على ترديد شعارات مثل: (إسلامية… إسلامية… لا حرية، لا تغيير، لا ديمقراطية). وأضاف: “قُتل معظم الشباب إما ذبحًا أو رميًا بالرصاص، أو تم إلقاؤهم في النيل. كانوا شبابًا أبرياء، لا علاقة لهم بأي طرف من أطراف الحرب، ولم يتعاونوا مع أي فصيل مسلح، بل كانوا ثوريين يحلمون بالحرية وسلامة وطنهم”.

أكدت مصادر عديدة أن حملات الإعدام في مدينة ود مدني كانت إنتقامية، واستهدفت كل من صنفهم الإسلاميون ضمن خصومهم السياسيين، بتهمة جاهزة: التعاون مع قوات الدعم السريع. وأفاد شهود بأن القوات التي دخلت المدينة في يومها الأول كانت تحمل قوائم بأسماء المستهدفين وعناوينهم.

في صباح 11 يناير، ظهر أحد أفراد القوات الخاصة التابعة للحركة الإسلامية في مقطع فيديو، معلنًا أن لديهم قائمة تضم 6800 اسمًا، متهمًا جميع المتواجدين في مدني، دون استثناء، بالعمالة لقوات الدعم السريع، ومؤكدًا عزمهم على تصفيتهم وإلقاء جثثهم في النيل. وأضاف أن الإعدامات ستُنفذ فورًا، دون تحقيقات أو محاكمات.

ولا تزال حملات الإنتهاكات في الكنابي مستمرة حتى الآن، فيما يواصل النشطاء وشباب الثورة التعرُّض للملاحقة في مختلف أنحاء الولاية، تحت ذريعة التعاون مع قوات الدعم السريع.

حملات إختطاف

لا تزال حملات ملاحقة شباب الثورة وأعضاء لجان المقاومة والنشطاء والمتطوعين في المبادرات الخيرية مستمرة في مختلف أنحاء ولاية الجزيرة.

في صباح الأحد، 2 فبراير، اختطفت قوة مشتركة من الإستخبارات العسكرية والمليشيات الإسلامية الناشط في العمل الإنساني زاهر مركز من منزله في قرية أبو فروع، قرب مدينة الحصاحيصا.

وزاهر مركز، لاعب كرة قدم سابق معروف في السودان، إذ سبق له اللعب للمنتخب الوطني.

وبحسب أصدقائه وأحد جيرانه في القرية، فإنه لا ينتمي إلى أي تيار سياسي، ولم يغادر قريته طوال فترة الحرب، بل كرّس وقته، مع مجموعة من شباب القرية، متطوعًا في العمل الإنساني لمساعدة ضحايا الحرب، من خلال إدارة (التكايا)، وهي أماكن خيرية تقدم الطعام والدواء للمحتاجين.

تم إعتقال ثلاثة آخرين من شباب القرية مع زاهر، ولا تزال الجهة التي اقتيدوا إليها مجهولة حتى الآن، وسط أنباء لم يتسنَّ لنا التأكد من صحتها عن تصفيتهم وإلقاء جثثهم في النهر.

وبعد يومين، اعتقلت قوات مشابهة الناشط المدني السلمي وضاح إسماعيل من منزله في وسط مدينة ود مدني، ولا يزال مصيره مجهولًا حتى الآن.

في غضون ذلك، تتواصل الإنتهاكات ضد سكان الكنابي، حيث قُتل العشرات هذا الأسبوع بطرق وحشية في كنابي شرق الجزيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى